عظة البطريرك الكاردينال الراعي- 14 حزيران 2015 (الذكرى السنوية الثانية لتكريس لبنان لقلب مريم الطاهر)

1. نشيد مريمَ العذراء في يوم زيارتها لإليصابات بعد بشارة الملاك لها، هو نشيد الكنيسة، بمؤمنيها ومؤسّساتها، في مسيرتها التّاريخيّة على وجه الدّنيا. فالله، الذي نعظّمه بابتهاج الرّوح مع مريم، هو المخلّص القدير على صنع العظائم؛ القدّوس الرّحوم الذي يشمل بحنانه فقراء هذا العالم والمتواضعين والجياع، بكمال أمانته لوعده المقدّس. فنضع بين يدَي عنايته شعوبَنا في بلدان الشرق الأوسط وأوطانَنا التي تتآكلها النزاعاتُ والانقسامات والحروب، وتستبدّ بها كلُّ قوى العنف والإرهاب والمرتزقة، مدعومة ويا للأسف من دول مشرقية وغربية بالمال والسلاح والحماية السياسية، وفتح الحدود أمامها.

2. إنّنا نجدّد اليوم تكريسَ ذواتنا ووطننا لبنان وبلدانِ الشّرق الأوسط لأمّنا مريم العذراء، لقلبها الطاهر المملوء حنانًا وحبًّا للبشر إخوة ابنها، عملاً بتوصيةٍ من سينودس الأساقفة الرّوماني من أجل الشّرق الأوسط. ونُنشد معها نشيد التّعظيم لله، مجدّدين هذا التكريس.

إنّه تكريسٌ يتّخذ أبعادًا جديدة من ثلاث مناسبات روحيّة وكنسيّة: من عيد قلب يسوع الأقدس، وقد احتفلنا به أوّل من أمس وهو مصدر الحبّ والرحمة الذي ملأ قلب مريم العذراء أمِّه؛ ومن حُضور شخص العذراء سيّدة Fatima بيننا في زيارة لوطننا، وقد استقبلها اللبنانيّون بتقوى شعبية فائقة في كلّ المحطّات منذ وصولها إلى مطار بيروت بعد ظهر يوم الجمعة؛ ومن سنة الرحمة التي أعلنها قداسةُ البابا فرنسيس. يذكّرنا عيد قلب يسوع الأقدس بحبّه الكبير للخطأة وقد افتداهم بموته على الصليب، وما زالت ذبيحة ذاته متواصلة من أجلهم في ذبيحة القداس، والكنيسة كلُّها تصلّي من أجل توبتهم إلى الله، فيخلصوا ويخلص العالم من الشرّ الذي يرتكبونه. وتذكّرنا سيدة فاتيما بما قالته للرعيان الصغار الثلاثة لوسيا وياسنت وفرنسيسكو في ظهوراتها سنة 1917، وهي “الدّعوة إلى تكريس العالم لقلبها الطّاهر، وتلاوة الوردية كلّ يوم، وإلى التوبة والصلاة، وتقديم التضحيات من أجل ارتداد المُلحدين والخطأة ونهاية الحروب”.

وتدعونا سنة الرحمة الإلهيّة، المتمثّلة في قلبَي يسوع ومريم الأقدسَين، ليرجع جميعُ الناس بالتوبة إلى رحمة الله، ويتصالحوا معه بالمسيح، ويصالحوا بعضُهم بعضًا. وتذكّر الرحمة الإلهيّة أن لا خلاص للبشرية من دون اللجوء إلى رحمة الله اللامتناهية. إنّنا نشجّع في المناسبة كلَّ ما تقوم به، في هذا السياق، جماعات الرحمة الإلهية في لبنان.

من أجل هذه الغاية كرَّس البابا لاون الثالث عشر العالم لقلب يسوع الأقدس في سنة 1899، وكرّسه المكرّم البابا بيوس الثاني عشر لقلب مريم الطاهر سنة 1942، أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945). وعاد القديس البابا يوحنا بولس الثاني فكرّسه لسيدة فاتيما في 21 حزيران 1981 بعد إطلاعه على سرّ فاتيما الثالث الذي كان مكتومًا، ولم يعلنه أيُّ بابا من قبله.

3. ونحن اليوم من جديد نكرّس أرضنا المشرقية المقدّسة التي تجلّى عليها سرُّ الله، واعتلن تصميمُه الخلاصي: على أرض العراق مع إبراهيم أبي الآباء؛ وفي مصر مع موسى محرِّر شعب الله؛ وفي فلسطين والأراضي المقدّسة حيث صار ابنُ الله إنسانًا من مريم ابنة الناصرة بالروح القدس؛ وفي أورشليم حيث رُفع الفادي الإلهي على صليب الجلجلة وقام من بين الأموات، وحلّ الروحُ القدس في علّية الرسل، ووُلدت الكنيسة؛ ومن أورشليم وإنطاكية أمّ الشعوب راحت تحمل إنجيل الخلاص إلى العالم كلّه. وفي لبنان أجرى المسيح آية تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة في قانا الجنوبية، وأعلن إنجيله مصحوبًا بالآيات على ساحل صور وصيدا؛ وفي دمشق كان ارتداد شاول من مضطهدٍ عنيفٍ للكنيسة إلى بولس رسولها الغيور؛ وعلى أرض سوريا لَمَعَ من بين آباء الكنيسة القديس يوحنا الدمشقي وانتُخب بابوات في عصور المسيحية الأولى، وعاش القديس مارون.

ولذلك نعيد تكريس هذه الأرض المشرقية، وهي مسيحية في الأساس، وقبل ظهور الإسلام بستماية وستّ وثلاثين سنة، وأُرسيت عليها ثقافةٌ مسيحيةٌ ما زالت تتفاعل إيجابيًّا مع الثقافة الإسلامية منذ ألفٍ وأربعماية سنة. إنّنا نكرّسها لكي تندمج الثقافتان في حضارة واحدة مشتركة، وتكون نموذجًا لعيش الأديان والثقافات معًا، بوجه المحاولات الدولية المعاكسة القائمة والمفتعلة في منطقتنا.

إننا، في المناسبة، نستنكر ونأسف لهذا التقاتل الهدّام الجاري بين الأخوة من أبناء الدين الواحد في منطقتنا. وآلمنا جدًّا بالأمس الاعتداء على الأخوة الموحِّدين الدروز في قرية قلب لوزه بريف أدلب بسوريا، وقد وقع ضحيّة المجزرة عشرات القتلى. إنّنا نعزّي عائلاتهم وسماحة شيخ العقل وكلّ الأحباء من طائفة الموحِّدين أينما وُجدوا. ونعرب لهم عن تضامننا معهم وقربنا منهم. وندعو إلى الله أن تتم تسوية هذه الكارثة الكبيرة والبغيضة بكثير من الحكمة والرويّة، تجنّبًا لما هو أسوأ.


patriarch-rai-sunday-mass21434350074

4. إنّ تجديد التّكريس يقتضي منّا الإلتزام بما يُمليه علينا إيماننا المسيحي: الله الذي أحبّنا وخلَقنا وافتدانا وأشركَنا بحياتِه الإلهيّة، يقتضي منّا جواب حبّ، حدَّدَه الرّبّ يسوع بحفظ كلامه ووصاياه (راجع يوحنا 14: 21). هذا الحبّ عاشته مريم العذراء، إبنة النّاصرة، بكلمة “نعم” لإرادة الله وتصميمه. فصنع فيها العظائم، وبواسطتها وتعاونها الواعي والسّخيّ، حقّق تصميمه الخلاصي.

أمّا جوهر كلام الله ووصاياه والغاية فهما معرفة إرادته، والتعاون معه في تحقيق تصميمه لخلاص العالم وإجراء العظائم في الإنسان وتاريخ البشر.

في هذا الضوء تظهر قيمة كلّ إنسان وكرامته وقدسيّته: إنّه معاون الله في مواصلة الخلق والفداء، وفي تغيير وجه العالم المُظلم. والمسيح يطلب هذا التّعاون لكي يُعلي شأن الإنسان وقيمة حريّة خياره كما أوحى ليوحنا الرسول في سفر الرؤيا: “هاءنذا واقفٌ على الباب أقرعه. فإنْ سمِعَ أحدٌ صوتي وفتحَ الباب، دخلتُ إليه وتعشَّيتُ معه وتعشّى معي” (رؤ 3: 20). إنّها الشركة الكاملة بين الله والناس!

5. أمّنا مريم العذراء هي القدوة لنا بامتياز في هذه الشركة. عندما أرسلَ الله إليها الملاك جبرائيل، كان يبحث عنها، وأراد تعاونها، فقرعَ باب حريّتها. أصغت مليًّا إلى كلام الملاك الذي نقلَ إليها تصميم الله عليها، فتخلّت عن مشروع حياتها “كفتاة مخطوبة ليوسف”، وأجابتْ بإيمان وثقة وحبّ: “أنا أمةُ الرّبّ. فليكُنْ لي بحسب قولك” (لو1: 38).

بهذا الجواب سلّمَتْ نفسها لإرادة الله، وتعلّقتْ بصخرته. فقد دعاها لتكون الوسيطة بقدرة الرّوح القدس فتكون أمّ كلمة الله بالجسد، ولتشارك في عمل الفداء، فتصبح أمًّا بالنّعمة لجسده السّرّي الذي هو الكنيسة. ولذا طوّبتها إليصابات، بوحيٍ من الروح القدس: “طوبى لتلك التي آمنت بأنّ ما قيلَ لها من الله سيتمّ “(لو1: 45). وحَيَّتْ شجاعة مريم وسخاها وتجرّدها من ذاتها. هذه الثّلاثة: الشجاعة والسخاء والتجرّد، على أساس من الإيمان، تشكّل الشروط للتعاون مع الله في تحقيق تصميمه الخلاصي، وفي تغيير وجه العالم المظلم.

im1402903813

6. على مثال مريم العذراء، ابنة الناصرة، يبحث الله عن كلّ واحد منّا، عن كلّ إنسان، ليتعاون معه في الحالة والمسؤولية التي هو فيها، من أجل تحقيق تاريخ الخلاص عبر تاريخ البشر. إنّ مساحات التعاون مع الله وتصميمه الخلاصي تشمل الكنيسة والعائلة والمجتمع والدولة. وتشمل الأفراد والجماعات، الأصحّاء والمرضى، الصغار والكبار.

ونودّ أن نتوجّه بنوع خاصّ إلى نوّاب الأمّة والكتل السياسية والعاملين في الشأن العام، لنقول لهم أن الله يبحث عنكم أنتم أيضًا، بحكم النظام الطبيعي الذي وضعه الخالق لكي يتعاون معكم من أجل الحكم بالعدل وإحلال السلام وتأمين خير المواطنين وسعادتهم وتحقيق ذواتهم، هم الذين سبق ومحضوكم ثقتهم، بل سلطتكم. “فالشعب هو مصدر السلطات”، كما نقرأ في مقدّمة الدستور. فلا يحقّ لأحدٍ حرمان البلاد من رئيسٍ لها منذ ما يزيد على السنة، الأمر الذي يتسبب بتعطيل سلطة المجلس النيابي التشريعية، ويعثّر عمل الحكومة، ويوقف التعيينات في المؤسسات العامة. ولا يحقّ لأحدٍ رمي البلد والشعب في حالة من الفوضى والفقر والعوز. ولا يحقّ لأصحاب النفوذ التصرّف بالوطن ومصيره ومؤسساته بحسب أهوائهم ومصالحهم.

7. إنّ تكريس لبنان وبلدان الشّرق الأوسط لقلب مريم الطّاهر، هو تكريس لوساطتها كأمّ إلهيّة ليسوع، وأمّ لنا على صعيد النعمة. ذلك أنّ ضراعتها تستنزل علينا النّعم التي تضمن خلاصنا الأبدي. فمحبّتها الوالديّة تحملها على أن ترافق بعنايتها إخوة ابنها في مسيرتهم التاريخية، وسط ما يتخبّطون فيه من مخاطر ومِحَن، حتى يعيشوا بسكينة وسلام، ويبلغوا إلى الوطن السّعيد (البابا يوحنا بولس الثاني: أم الفادي، 40).

إليكِ يا مريم، يا سيدة لبنان وسيدة فاتيما، نرفع صلاتنا في فعل التكريس هذا، وأنتِ تشعرين بما يؤلمنا في لبنان وبلدان الشَّرق الأوسط، وبخاصّة في فلسطين والعراق وسوريا واليمن، من صراعات بين الخير والشّر، بين النور والظلمات. إليكِ نصلّي وأنت تسمعين بقلب الأمّ صراخ ضحايا الحروب والعنف والإرهاب، وصراخ الخاضعين للتعذيب والتشريد والنزوح والتهجير. تقبّلي نداءنا الذي نوجّهه مباشرة إلى قلبك، واشفعي بنا جميعًا لدى ابنكِ الفادي الإلهي. فأنتِ تعرفين أن تخاطبي قلبه الأقدس، قلب المحبة والرحمة والحنان. إزرعي السلام في أرضنا، والمحبة في قلوبنا، والحقيقة في عقولنا، والخير في إرادتنا، وصوتَ الله في أعماق ضمائرنا. فنرفع معكِ نشيد المجد والتعظيم للثالوث المجيد الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

تابعونا على الفيسبوك:
قلب مريم المتألم الطاهر

final 

You may also like...

Powered by Calculate Your BMI