حبّ الله اللامتناهي (المطهر والجحيم) -تعاليم القديسة فيرونيكا جولياني

Santa-Veronica-in-estasi
الله محبّة (1 يو 4/8). إنّها الحقيقة الأكثر “حقيقة” (بمعنى الأكثر بديهيّة)، والأجمل والأكثر بعثًا على الطمأنينة.
إنّها أساس البناء الروحيّ والإيمانيّ المسيحيّ بأكمله، لا بل للبشريّة بأسرها.
 الله محبّة! الله صالح: “لا صالح إلاّ الله” (لو 18/19) لقد خلق كلّ شيء بمحبّة، ولأجل المحبّة، “لأنّك تحبّ جميع الأكوان ولا تمقُت شيئًا ممّا صنعت” (الحكمة 11/25).

إنّ نظرة حقيقيّة إلى الله، خصوصًا بعد مجيء السيّد المسيح، الكلمة المتجسّد، الإله والإنسان الحقّ، المولود طفلاً والمائت لأجلنا، غافرًا لنا ومبرّرًا إيّانا على الصليب. لا يمكن أن تؤدّي أبدًا إلى الارتياب كون تاريخ البشريّة بأكمله، وتاريخ كلّ إنسان، يُقرأ بالمنظار التالي: لديّ في السماء أب صالح، هو المحبّة بذاتها، وهو أبي الذي يسهر عليّ ويحوّل كلّ الأمور إلى ما يؤول لخيري، إن كنت أؤمن به، وألجأ إليه، وأضع ثقتي فيه، إن كنت أدعوه للقيام بذلك.
     لا يمكن دخول الملكوت إلاّ عبر براءة الأطفال وثقتهم العامرة بالله: “إن لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السماوات” (متى 18/3).
والحقيقة أنّ ذلك الملكوت هو الحبّ بالذات، هو النور بالذات، هو السلام بالذات.
     هذا ما نتعلّمه من حياة القدّيسة فيرونيكا. فهي باستسلامها ووعيها العميق لصغرها بل لصغر كلّ خليقة أمام “كلّ” الخالق،
قد أعطيت أن تسبّح في الله “وتذوب في الله”، في الحبّ، وقد ختمت حياتها الطوباويّة بهذه الكلمات التي سبق ذكرها:
“المحبّة كشفت عن ذاتها! هذا هو سرّ تألّمي! قولوا ذلك للجميع! قولوا ذلك للجميع!”
 

     نعم، لا يتمّ فهم الألم والقبول به إلاّ عن طريق الحبّ. لماذا؟

     لأنّ الله قدّوس؛ والحياة الأبديّة هي الاتحاد بالله، بـ “القدّوس”، بالقداسة عينها. فلن نستطيع الاتحاد به إن كنّا ما زلنا ملطّخين.

هوذا سرّ تحمّل الألم، الذي يطهّرنا ليجعلنا نتّحد بالله، كي نذوب ونفرح به إلى الأبد، بدءًا من هذه اللحظات، بمقدار قبولنا وتحمّلنا هذا التطهّر الذي استدعته الخطيئة.

     بهذه النظرة المتواضعة والصائبة، نفهم أنّ حكم الله على الإنسان الأوّل، بعد الخطيئة الأصليّة، لا ينظر إليه كعقاب، بل كعلاج: إنّه الدرب التي لا مفرّ منها للتطهّر من أوزار الخطيئة الهائلة.

     هذه النظرة “التطهّريّة” بواسطة الألم، تقدّم خير تفسير لواقع المطهر، فالقدّيسة فيرونيكا تؤمن بأنّ النفوس تسرع مسرورة إلى مَطهرها، رغم ما ستلقاه مِن العذابات، كي تَتطهّر، وتتمكّن مِن التمتّع بعناق إله جميل للغاية، نقيّ وقدّوس للغاية. وتتصرّف الأنفس المطهريّة على هذا النحو، لأنّها قد عَاينت، خِلال الدينونة الخاصّة بعد الموت فورًا، حقيقة هذا الإله الصالح، الرّحوم، المُهان مِن كَثرة خطاياها، كما قد عاينت أيضًا، بوضوح، هَوْل الخطيئة التي تُلطّخ النفس، مانعةً إيّاها مِن الاقتراب من “القدّوس”، ولهذا تُسرع إلى العلاج.

     هذا ما تكشفه لنا القدّيسة فيرونيكا بما خبرته في حياتها. فطوبى لنا إن آمنّا بذلك ولو لم نعاين: “طوبى للذين آمنوا ولم يُعاينوا” (يوحنّا 20/29).

     أمّا النظرة إلى جهنّم، فتَنبثق مِن المَنطق نفسه، فجهنّم ليست عقابًا، بل نتيجة حتميّة للذين يرفضون هذه المحبّة، الذين لا يؤمنون، الذين لا يقبلون أن يتمّ تطهيرهم،

الذين لا يبتغون “النّظام” الذي وضعه الله للحياة الأبديّة، مِن خلال وصاياه وشرائعه التي هي شرائع حياة، محبّة، وبمخالفة الشرائع، نَفقد الحياة لكوننا نرفض قبول شرائع الفردوس.

     فالله، بمحبّته اللامتناهية، لا يُلزِم الإنسان الذي خلقه بأمرٍ ما. وفي المقابل، لا يبتغي حرمانه مِن الحياة التي وهبه إيّاها “فمواهب الله ودعوته هي بلا ندامة” (روما 11/29)،

لكن بِكشفه الحقيقة للإنسان، إنّما يدعوه إلى اختيار الحياة:

“لقد وضعت أمامك الحياة والموت؛ اختر الحياة” (تث 30/19)؛ وفي خضمّ هذه الحقيقة، يُظهر له أيضًا جهنّم، لا لتهديده، بل ليجعله يعي نتيجة اختياره، نتيجة عصيانه؛

لكي يساعد على رفض الخطيئة، لكي يحثّه على الجِهاد، لما فيه خيره وخلاص نفسه، فالله إذًا، يُظهر جهنّم للإنسان بدافع الحبّ والرحمة والعدل، لئلاّ يلوم الإنسان الله يوميًّا، متّهمًا إيّاه بعدم إعلامه بذلك، وبكونه أبقاه في الحِيرة، دون نور الحقيقة كاملةً.

     هذا هو الدّور الفائق الأهميّة للقدّيسة فيرونيكا الذي أسهم في “انتصار محبّة الله للإنسان”.

نعم! الله محبّة، وفردوسه رائع، لكن جهّنم معدّة في الوقت نفسه، لِمن يرفض هذه المحبّة التي هي أيضًا نظامٌ، وطاعةٌ

“من أحبّني حفظ وصاياي” (يو 14/23). “من لا يحبّني لا يحفظ وصاياي؛ والكلمة التي تسمعونها ليست لي، بل للآب الذي أرسلني” (يو 14/24).

     لكن الشّيطان وطبيعتنا المتكبّرة يريدان منّا أن نرى الأمور على عكس حقيقتها.لماذا؟

     فالشيطان لكونه “أبا الكذب” (يو 8/44)، يكرهنا، ويريد منّا أن نعتقد بأنّ الله ليس محبّة لأنّه خلق جهنّم، وأسوأ ما في كذبه، أنّه يريد خداعنا بأنّ الله غير صادق، وجهنّم غير موجودة.

     أمّا لماذا طبيعتنا البشريّة تحذو حَذو الشيطان: فإمّا لكونها مُتكبّرة، مُتغطرسة، فَوضويّة، تبحث عن حريّة كاذبة لا تبتغي الخضوع لنَواميس الله… وإمّا لكونها مَجروحة، وضعيفة، ترفض التخلّي عمّا يطيب لها من “ملذّات”، وأفراح، وما شاكلها.

     لا شكّ أنّ الله خلق الإنسان لأجل أن يكون سعيدًا، لذا هو يبحث عن السعادة تلقائيّا. غير أنّنا، مِن خلال تأمّلنا لكتابات القدّيسة، ونحن منذهلون أمام الله، هذا الإله المالك، المُسيطر، الفاعل، بحر الحبّ اللامتناهي، النور اللامتناهي، السلام اللامتناهي. سوف ندرك بأنّ ما نعتبره “أفراحًا وملذّات”، هو مجرّد أوهام،

بل أكثر من ذلك، سوف نعي خطورة السُّمّ الذي يدسّه لنا الشيطان فيها، تمامًا كما في ثمرة جنّة عَدن التي بدت “جميلة وشهيّة” (تكوين 2/6).

عند ذلك، سنقتنع بِبطلان هذا العالم الزائل، مُردّدين مع القدّيس فرنسيس “عظيم مِقدار الخير الذي ينتظرني، حتّى أنّ كلّ عناء هو لذّة لي”.

     كم هي صحيحة هذه الكلمات! وكم عاشتها قدّيستنا بحذافيرها!

     فالقدّيسة فيرونيكا، بفيضً مِن معرفة الله ونوره ومحبّته، كانت تبكي كالقدّيس فرنسيس لِكون “المحبّة غير محبوبة”. كانت لترغب أن تَجوب العالم بأسرِه صارخةً بأنّ الله محبّة، إله خالق، فادٍ، لا يستطيع بطبيعته سوى العطاء والمحبّة حتّى الجنون، جنون الصليب، الذي لامسته القدّيسة فيرونيكا وأجادت في وصفه.

إنّها تدعونا بكلّ قوّة إلى التوبة والارتداد عن الخطيئة لكي نستطيع تذوّق تلك النِّعَم: “توبوا فإنّ ملكوت الله قريب!” (متى 3/2).

(تابع على صفحة 2)

You may also like...

Powered by Calculate Your BMI