مريم تسمع ومرثا تخدُم، إيّاها أعظم ؟! (لوقا 10: 38-42)

لماذا نبّه يسوع “مرتا” المرأة العاملة في المنزل بكل تضحية ومحبّة ؟ مع العلم أنها كانت تريد أن تطعمه !!
هل فعلًا العمل خطيئة ؟ أو أمرٌ حرام ؟!!

لنقرأ إنجيل الأحد لنفهم أكثر، مع تفسيرٍ رائع ! :
إنجيل القدّيس لوقا .42-38:10

فيمَا (كَانَ يَسوعُ وتلاميذهُ) سَائِرين، دَخَلَ يَسُوعُ إِحْدَى ٱلقُرَى، فٱسْتَقْبَلَتْهُ في بَيتِهَا ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُها مَرْتا.
وَكانَ لِمَرْتَا أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَم. فَجَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَي ٱلرَّبِّ تَسْمَعُ كَلامَهُ.
أَمَّا مَرْتَا فَكانَتْ مُنْهَمِكَةً بِكَثْرَةِ ٱلخِدْمَة، فَجَاءَتْ وَقَالَتْ: «يَا رَبّ، أَمَا تُبَالي بِأَنَّ أُخْتِي تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُسَاعِدَنِي!».
فَأَجَابَ ٱلرَّبُّ وَقَالَ لَهَا: «مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين!
إِنَّمَا ٱلمَطْلُوبُ وَاحِد! فَمَرْيَمُ ٱخْتَارَتِ ٱلنَّصِيبَ ٱلأَفْضَل، وَلَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا».

10363809_689855644442735_2521448768974720497_n

التفسير:
———
كانت مرثا ومريم أُختين، قريبتين حقًا ليس بالجسد، وإنّما أيضًا بالتقوى، كانتا مُلتصقتَين بالرّب، تخدمانه حين كان حاضرًا بالجسد.

استقبلته مريم كما تستضيف الغُرباء، كخادمة تستقبل سيِّدها، ومريضةٌ تستقبلُ مخلِّصها، وكخليقةٍ نحو خالقها. قبِلته لتطعمه جسديًا، فتَقْتاتَ بالروح، لقد سُرّ الرب أن يأخذ شكل العبد (في 2: 7)، لذلك صار الخدَّام يُطعمونه، بِتنازله سمح لنفسه أن يَقوته الآخرون. صار له جسدٌ يجوع حقًا ويَعطش، ولكن هل تعلم أنّه إذ جاء في البرِّيَّة كانت الملائكة تخدمه (مت 4: 11)؟

إذ كانت مرثا تدبِّر الطعام وتعدُّه لتُطعم الرب، كانت منهمكة في الخدمة جدًا، أما مريم أختها فاختارت بالحري أن يطعمها الرب. إنها بطريقة ما تركت أختها المرتبكة بأعمال الخدمة وجلست هي عند قدميْ الرب تسمع كلماته بثبات. لقد سمعت أذنها الأمينة: “كفُّوا واعلموا إني أنا الله” (مز 46: 10).

مرثا ارتبكت أما مريم فكانت متمتِّعة (محتفلة)؛ واحدة كانت تدبِّر أمور كثيرة، والأخرى ركَّزت عينيها على الواحد.

صالحٌ هو ما فعلته مرثا بِخدمتها للقدِّيسين، لكن الأفضل هو ما فعلته أختها مريم بجلوسها عِند قدَّميْ الرّب واستماعها كلمته.
صالحةٌ هي الخدمات التي تقدَّم للفقراء، خاصّةً الخدمات الضّروريَّة والأعمال الوَرِعة التي تُقدَّم لقدِّيسي الله… ولكن الأفضل مِنه هو ما اختارت مريم أن تفعله. فإنّ الأعمال الأولى لها مَتاعبٌ كثيرة تُمارَس بسبب الضرورة، أمّا الثانية فلها عذوبتها تمارَسُ بالمحبَّة.

لو أن مرثا قد تمتَّعت بالشّبع خِلال مُمارسة هذه الأعمال لَما طلبت معونة أختها. هذه الأعمال مُتعدِّدة ومتنوِّعة إذ هي أعمال جَسدانيَّة مؤقَّتة. حقًا إنّها أعمالٌ صالحة، لكنّها زائلة. لكن ماذا قال الرب لمرثا؟ “مريم اختارت النصيب الصالح”.
لستِ أنتِ شرِّيرة، إنّما هي أفضل. اسمعي، لماذا هي أفضل؟ “لن ينزع عنها” في وقت أو آخر ثِقَل الواجبات الضروريَّة يُنزع عنك، أما عذوبة الحق فأبديَّة… أنه لن ينزع منها، لا بل يزداد. في هذه الحياة يزداد لها، وفي الحياة الأخرى يكمل لها ولا ينزع عنها.

كانت مرثا تهتم أن تُطعم الرب، وأما مريم فاهتمت أن يُطعمها الرب. بواسطة مرثا أُعدَّت الوليمة للرب، هذه الوليمة التي ابتهجت فيها مريم.

في هاتين الامرأتين مُثِّلت الحياتين: الحياة الحاضرة والحياة العتيدة؛ حياة الجهاد وحياة الراحة؛ حياة الحزن وحياة الطوباويَّة؛ الحياة الزمنيَّة والحياة الأبديَّة…

ماذا تحمل هذه الحياة؟ لا نعني بهذا حياة شرِّيرة، رديئة، خبيثة، مترَفة جاحدة، بل هي حياة جهاد مملوءة آلامًا، ومخاوف، تُفقدها التجارب سلامها… ونقول أن الحياتين غير ضارِّتين، بل ومستحقَّتان المديح، لكن واحدة مملوءة تعبًا والأخرى سهلة…

في مرثا نجد صورة للأمور الحاضرة، وفي مريم الأمور العتيدة.

ما تفعله مرثا نفعله نحن الآن، ما تفعله مريم نترجَّاه لنفعل العمل الأول حسنًا فننال الثاني كاملاً.

يقول القدِّيس أغسطينوس:
كوني كمريم تفضِّلين طعام النفس عن طعام الجسد.
أتركي أخواتك يجرين هنا وهناك ليدبِّرن بلياقة كيف يستضيفن المسيح، أما أنتِ فإذ تتركي ثِقل العالم اجلسي عند قدميْ الرب، وقولي له: “وجدت من تحبُّه نفسي، فأمسكتُه ولم أرْخه” (نش 3: 4).

والقدِّيس جيروم:
يأمر الرب أن يترك (الإنسان) حياته المرتبكة ويلتصق بالواحد، يقترب من نعمة ذاك الذي يقدِّم الحياة الأبديَّة.


ختامًا، لنقرأ عظة القديس أغسطينوس حول هذا الإنجيل:

في الأبديّة، سنجلس إلى المائدة. لم أكن لأتجاسر على ذلك لولا وَعد الربّ بذلك. لقد وعد بمكافأةٍ كبرى لخدّامه، لأنّه قال لهم: “إِنَّه يَشُدُّ وَسَطَه ويُجلِسُهُم لِلطَّعام، ويَدورُ علَيهم يَخدُمُهم” (لو 12: 37)… كبيرٌ الوعد إذًا، ومفرحٌ إتمامه. فلنتصرّف بطريقةٍ لنستحقّه؛ لكي نتّمكن مِن أن نُساعَد بطريقةٍ نبلغ فيها المكان حيث سيكون الربّ في خِدمتنا على الطاولة.

ما ستكون تلك الوليمة، إن لم تكن راحةً؟ وما يعني “سيخدُمنا” إن لم يكن أنّه سيُشبعنا؟ عن أيّ طعام وأيّ شراب تكلّم؟ أكيد، عن الحقيقة نفسها. ألا تؤمن أنّ الله بإمكانه أن يغذّيك هكذا، إذ بهذه الطريقة تُشبع عينك مِن النّور؟ لو شاهد كثيرون النور، فهو يلمع وافِرًا؛ وإن شاهده قليلون، فإنّه لا يزال يلمعُ بالوَفرة نفسها. إنّه ينشرُ الرّاحة، لكن لا يمكنُ أن يكون فيه علّة؛ نستهلكه بدون أن يُنتَقص منه. لماذا لا تفهمونه بعد؟ لأنّكم منشغلون بأمورٍ كثيرة. عمل مرتا يشغلكم؛ زِد على ذلك إنّه يشغلنا كلّنا. لأنّه مَنِ المُعفى مِن عمل المساعدة هذا؟

لذا أيّها الأحبّاء، أرجوكم وأحثّكم…: لنبتغِ هذه الحياة، سويّةً. وليذهب جميعنا نحوها راكضين، حتّى نسكن فيها عند وصولنا. سوف تأتي الساعة وستكون بلا نهاية، حين يجلسنا الربّ إلى المائدة لخدمتنا. ماذا سيقدّم لنا، إن لم يقدّم لنا نفسه؟ لماذا تبحثون عمّا ستأكلون؟… إنّه الربّ نفسه… “واحِدةً سألتُ الرَّبَّ وإِيَّاها أَلتَمِس أَن أُقيمَ ببَيتِ الرَّبِّ جَميعَ أَيَّام حياتي لِكَي أُعايِنَ نَعيمَ الرَّبِّ وأَتأمَّلَ في هَيكَلِه” (مز27[26]: 4)…لا نتذوّقنَّ إذًا طعامًا جسديًّا…: إنّه عابر. إذا أردت أن تأخذ دور مرتا بالانشغال بهذا الطعام، فليكن باعتدالٍ ورحمة… فالعمل عابر، وستأتي الراحة، لكن لن نصل إليها إلاّ بالعمل. تمرّ السفينة، ونصل إلى الوطن، لكن لا نبلغه إلاّ بالسفينة. لكنّني متأكّد من أنّنا لن نغرق، لأنّنا محمولون على خشبة الصليب.

✞ ♥ ✞

تابعونا على الفيسبوك:
قلب مريم المتألم الطاهر
10509613_656184954476471_197786145256822204_n

You may also like...

Powered by Calculate Your BMI