خطيئة “شهوة العين والقلب” !

نعيشُ في زمنٍ تُسيطر فيه الشّهوةُ واللّذة والإباحيّة والفساد الأخلاقيّ، بدرجةٍ عالية لم يشهد مثيلَها التاريخ أبدًا من قبل. هو زمنٌ يقدّم لنا الخطيئة على أنواعها، على طبقٍ من فضّةٍ، وبخاصّةٍ خطيئة الدّنس بمجالاتها العديدة الّتي تكاد لا تُحصى ولا تُعدّ، ويفتح لنا مئة بابٍ وباب للوقوع بها! انطلاقاً من التّلفاز مروراً بوسائل التّواصل الإجتماعيّ… وصولاً الى المواقع الإلكترونيّة الإباحيّة… كذلك الكُتب والمجلّات وحتّى إعلانات الطرقات… أضف الى ذلك قلّة الحشمة في الطّرقات والأعراس والمطاعم والحفلات، والمناسبات كافّةً، وحتّى في المدارس والجامعات، ومن قِبَل الجيران، وفي داخل البيت الواحد من أقرب المقرّبين إلينا.
وللأسف الشّديد، باتت التّجربة تأتي أيضًا من داخل جدران الكنيسة، وذلك بسبب فتور الإكليروس ولامبالاته!

أينما ذهبتَ تقرعُ تجربةُ “شهوةُ العين” بابَ قلبِكَ لتوقِعكَ بحبائلها، وهي لا تستثني إلّا قلّةً من المؤمنين، أولئك الّذين يتسلّحون بالوعي الكافي والمناعة الرّوحيّة اللّازِمَين. أمّا العدد الأكبر من النّاس وحتّى المؤمنين منهم، فتصطادُهم هذه الخطيئة بكلّ سهولة وتدنّسُ قلوبَهم ونفوسَهم. وأسوأ ما في الأمر أنَّ معظمهم أضحى غافلًا عن هذا الخطر الروحيّ الذي يعرّض نفوسَهم للهلاك الأبديّ، ولكأنَّ العينَ والقلبَ اعتادا على هذا النمط من الفساد والشرّ، وبات الباطلُ حقًّا، ولم تَعُدْ الخطيئة خطيئةً لا بل أصبحت في بعض الأحيان”فضيلة”!
وعلى الّرغم من أنّ خطيئة “الشّهوة بالنّظر والقلب” تَستدرجُ الإنسانَ غالبًا إلى خطايا مُتنوّعة تفوقها جسامةً وخُطورةً (الأفكار والتّخيّلات الدّنسة، العادة السرّية، الزّنى، والخيانات الزوجيّة… إلخ) إلّا أنّ “موت الضَّمير الإنسانيّ” أضحى هو العلاج والمَهرب بالنّسبة إلى كثيرين، إذ يُطفِئُ فيهم كلَّ ميلٍ للتّوبة، ويُسكِتُ تبكيت الرّوح القدس!
فنستنتج مع المكرّم البابا بيوس الثاني عشر أنَّ “خطيئة العالم العظمى اليوم، هي فقدان الحسّ بالخطيئة”!


فما هي “شهوة العين” أو  خطيئة “الزّنى بالنّظر والقلب”؟ كيف نحدِّدُها؟ وكيف ننتصرُ عليها؟

 

1- النَّظرة الّتي تولّد الشَّهوة هي خطيئة

يُعلّمنا الرّب يسوع المسيح، مُوضحًا:
“قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ .وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ ” (متى 5: 27- 28)
ليست كلّ نظرةٍ، خطيئةً بحدِّ ذاتها. فمَن نظر واشتهى، أو نظر بِنيّة أَن يشتهي، هو الّذي يقعُ في الخطيئة! ولهذا، يربُط الربّ يسوع خطيئةَ العين بخطيئةِ القلب بطريقةٍ غير قابلةٍ للانفصال. لأنّه إن لم تَقُدْكَ النّظرةُ إلى شهوةِ القلب (أيْ اللّذّة) أو الى هَيجان الأفكارِ والمَقاصد والرّغبات (أي ما يُسمّى بالفجور)، لا تُعتَبر حينها بخطيئة.
فالقدّيس أُغسطينوس يُحدّد الخطيئة بقوله: “هي كلّ كلمةٍ أو فعلٍ أو شهوةٍ تخالفُ الشّريعة الطّبيعيّة.” (التّعليم الكاثوليكيّ: بند 1849)
والكنيسة الكاثوليكيّة تعلّمُ أنّ “هناك خطايا الفكر والقول والفعل والإهمال” (ت. ك. 1853)
وأنّ “الفجور هو رغبةٌ منحرفةٌ في اللّذّة الجنسيّة، أو تمتّعٌ بها مُخِلٌّ في النّظام الأخلاقيّ. واللّذّة الجنسيّة تكون منحرفةٌ من النّاحيةِ الأخلاقيّة عندما تُقْصَدُ لِذاتِها، مَعزولةً عن غايتَي الإنجاب والاتّحاد.[في الزواج]” (ت. ك. 2351)

2- المسيحُ يقتلعُ الخطيئة من جذورها

إن كانت الشّريعة مع موسى قد حرَّمت إرضاء الخطيئة (أي تنفيذها): “لا تزْنِ” (خر 20: 14) فإنَّ المسيح جاء ليَقتلع جُذورها من أساساتها وذلك بمنع الخطيئة منذ مرحلتها الأولى. إنْ كانت الخطيئة تبدأُ بالإثارة خلال النّظرة الشريرة فيَتقبّلها الفكر بعدها ويتلذّذ بها، ثمّ تصل إلى الإرضاء بالتّنفيذ العمليّ، فإنّه يَسهُل على المؤمن أن يواجِهها في مرحلتها الأولى، قبل أن يكون لها موضعٌ في الذّهن، أو حتّى الحصول على لذّةٍ خلال مُمارستها.

يقول القدّيس أغسطينوس: “إنَّ الخطيئة {المُميتة] تكتمُلُ على ثلاث مراحل:الأولى: إثارتها، الثّانية: التّلذّذ بها، والثّالثة إرضاءَها”.
وفي الوصايا العشر، نلاحظ كيف قطَعَ الله جذور الخطايا بطريقةٍ عجيبةٍ وراديكاليّة، إذ يقول: “لا تزنِ” (خر 20: 14) ثمّ يقول بعدها أيضًا “لا تشتهِ”! فالشّهوة هي جِذر الزّنى، كما أنّ الزّنى هو ثمرة الشهوة !

3- ضرورة فهم خطورة هذه الخطيئة ونتائجها

قد لا يعتبر البعض أنّ “استمتاع العين والقلب” هو خطيئةٌ جسيمةٌ مميتةُ ! إلّا أنّ الرّب يسوع كان واضحًا وحازمًا، عندما قال:
“َإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. (متى 5: 29)
ثمّ يكرّرُ الآية نفسها عن “اليد اليُمنى”. (متى 5: 30)
العين اليُمنى واليد اليُمنى، تَعنيان “القبول والتفاعل الإراديَّين”.
نعم! إنَّ خطيئة الشّهوة والقبول (العين اليُمنى) تقودُ إلى الهلاك الأبديّ في جهنّم إن لم نَتُبْ عنها، وكذلك خطيئة الممارسة والتّنفيد (اليد اليُمنى). بالطّبع لا يجب أن نفهمَ كلام المسيح بقطع اليد أو قلع العين بالمعنى الحرفيّ، لأنّ المقصود هو ضبط نظراتنا وشهواتنا وأفعالنا، كما قال القديس بولس الرسول: “إحسَبوا أنفُسَكُم أمواتًا عَن الخطيئة” (رو 6 :11) وأيضًا “أمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ: الزِّنَى، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيئةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ.” (كو 3: 5)

4- العلاج الأوّل: الهروب من الأسباب !

إنطلاقاً ممّا سبق ذكره، تأتي ضرورة تجنّب أسباب الخطيئة منذ البداية، وذلك “بِحجْبِ النّظر عن كلّ ما يقودني إلى الشّهوة، حتّى لو لم تكن لديَّ النيّة لأن أشتهي، فالقدّيس بولس يُحذّر: “مَن كان واقفًا، فَليَحذَر السُّقوط” (1 كو 10: 12)
أمّا السيّد المسيح فيُحدّدُ مصدرَ الشّهوة والخطايا كافّةً: “قلب الإنسان” المجروح بالخطيئة الأصليّة؛ “لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عُهرٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ.” ( مر 7: 21- 22)

أمّا الباب الرئيسيّ لهذا المَنبع، فهو العين: “سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَمَتَى كَانَتْ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلِمًا.” (لو 11: 34) فعلى المسيحيّ أن يُجاهِد أوّلًا بقمع النّظر عن أمورٍ كثيرةٍ تُسيءُ إلى نفسِه: “عن وسائل الإعلام المَرئيّة، والصّور، والإعلانات، والنّاس في الطّرقات وفي المُدن…” وتَجنُّب -بقدر المستطاع- الأماكن التي تقوده مباشرةً إلى الخطيئة: “السَّهرات، الحفلات، البحر، بعض اللّقاءات… والأشخاص الّذين يُسبّبون له الشّهوة، أو يقودونه ويشجّعونه إليها بشتّى الوسائل.”

5- في التّساهل سقوطٌ !

“الخطيئة العرضيّة المُتأتّية عن تروٍّ ولم تَحظَ بالنّدامة، تُهيّئُ رويدًا رويدًا لارتكاب الخطيئة المُميتة” (ت. ك. 1863)
فلنمتثِل -بقدر الإمكان وكلٌ بحسب وضعه الخاصّ- بالقدّيسين، الّذين كانوا صارمين جدًّا مع أنفُسِهِم في محاربة الأسباب الأولى للشّهوة، وتميّزوا بقمعٍ كاملٍ ومتواصِلٍ للنّظر. إنّ خير مثالٍ على هذا الأمر هو القدّيس شربل، الّذي لم يكن رفَع عينيه قطّ عن الأرض، كذلك القدّيس غابريال لسيّدة الأوجاع، الّذي ما كان يميّز إخوته في الدّير إلّأ من صوتِهم أو مَشيتِهم…

ولنتذكّر كيف أنّ الملكَ داود تساهَل في النّظر، فاشتهى “بَتشابع” زوجة “أوريّا الحِثّي”، عندما رآها من سطح بيته تستحمّ. فقادَتهُ شهوتُه إلى قتل زوجها والزّنى معها، وفقدان الصّداقة مع الله. (2 صم 11) قبلَ التّوبة والبكاء لمدى العمر.
ألا تعلم أنَّ الخطيئة الأولى (الخطيئة الأصليّة) ابتدأت عبر شهوة العين؟ فَرَأَتِ المرأةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ.” (تك 3: 6) فمن خلال شهوة العين عصَت حوّاء أمرَ الله، وتمرّدت عليه، وقادَت آدم إلى افتعال الخطيئة.

6- الشّفاء الدّاخلي والتحرّر من الشّهوة

لنَتَيقّن أنّ نعمة طهارة القلب لا تنبعُ من ذاتنا مُطلقاً، بل هي هبة مجّانيّة من الله الذي استحقّها لنا بموت ابنه الوحيد يسوع المسيح وقيامته وانتصاره على الخطيئة والموت.
لذلك لا بدّ لنا لنتقوّى في وجه هذه الآفة أن نَلتجئ إلى استحقاقات يسوع، لا سيّما في سرّ الإعتراف المقدّس حيث “دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيئةٍ” (1 يو 1: 17) على يدَي الكاهن الذي يُمثّله. كذلك اللّجوء الى الصّلاة المستمرّة، وبخاصّةٍ ورديّة العذراء مريم، إذ هي تِعدُ القديس آلان دو لاروش: “صلاة الوردية هي ترسٌ منيعٌ (…) يُحرِّرُ النفوسَ من نِير الخطيئة والغرائز الشِّريرة.” كما والالتجاء الى القدّيس يوسف البتول، أطهر خطّيب وشفيع الطهارة، وطلب شفاعته وإكرامه بشكلٍ دائمٍ. بالإضافة إلى الصّوم وممارسة الإماتات والتّقشّفات، وقراءة الكتاب المقدّس وسِير القدّيسين…

– لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّم الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بلْ مِنَ الْعَالَمِ. وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ. (1 يو 2: 15- 17)

-“الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَالْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ، أَمَّا الابْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ.
فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا.” (يو 8: 34 -36)

7- كلام الرّب يسوع إلى القدّيس بطرس (رؤى المتصوّفة ماريا-فالتورتا)

“ليس من الصّعب التعويض عن خطيئة واحدة صغيرة (هفوة)، لكن إن لم يجتهِد المرءُ للتّوقّف بعد هذه الهفوة “الواحدة”، وإذا كدّسناها وكدّسناها وكدّسناها، فإنّ هذا الإثم الصّغير -الذي ليس إلّا إهمالٍ بسيطٍ، ضعفٍ بسيطٍ- يصير دومًا أكبر، وغالبًا ما يتحوّل إلى أن يصير رذيلةً مُميتةً. أحيانًا نبدأُ بنظرة شهوةٍ، وننتهي بزنًا كاملٍ. أحيانًا أخرى يبدأ هذا الإثم الصّغير بكلمات خاليةٍ من المحبّة للقريب، وينتهي بفعل عنفٍ ضدّه. 
حذارِ البداية! اسهروا لئلّا تزداد الآثامُ وزنًا مع تكاثرِ عددها! إذ تُصبِحُ خطرةً وقويّةً للغاية، كالحيّة الجهنّميّة نفسها، لتجذبكم إلى هوّة جهنّم.”
(الإنجيل كما كُشِف لي، جزء 1- قسم 2، رقم 21: شفاء الأعمى في كفرناحوم)

 

تابعونا للمزيد على صفحة @قلب مريم المتألم الطاهر

You may also like...

Powered by Calculate Your BMI