القديسة مريم البواردي تزور السماء والمطهر وجهنّم

 جرى هذا الإنخطاف قبل دخول مريم بواردي دير الكرمل، في كنيسة القديس نيقولاوس، في أعقاب المناولة، التي أقبلت عليها، في شوق ملتهِب. ففي حين كان الكاهن يناولها القربان المقدّس، هتفت:
“إنّك، يا أبتاه، تعطيني ولدًا” وهَوَت على الأرض جثّة هامدة.
وقد استمرّت على هذه الحال أربعة أيام، كأنّها ميتة فيما وجهها زهريٌّ كأنّها نائمةٌ !
..
وعندما أُمرت مريم، سنواتٍ بعد ذلك، أن تُروي ما حدث لها في غضون تلك الأيّام الأربعة، سردت تفاصيل رحلةٍ، قلّما قام بمثلها إنسانٌ بالروح، فيما جسده على الأرض ينبضُ بالحياة. وليس أعذب مِن سماع روايتها من فمها:

 

“نُقِلتُ إلى السماء، ورأيت العذراء القديسة يُحيق (يحيط) بها الملائكة، وإلى جوارها عددٌ غفيرٌ من العذارى، ورأيتُ نفسي صغيرةٌ جدًّا، بل قد تحوّلت عَدَمًا. ومع ذلك كنت أشعر أنّ جميع تلك النفوس كانت تحتضنني في فرحٍ جمٍّ.

“وارتميت عند أقدام العذراء قائلة لها: “أيتها الأمّ الحنون، هل ستُبقيني هنا إلى الأبد؟… فأجابتني: “ما زال ينقُصكِ الكثير”
“ليس بوسعي وصف ما كان يُحيق بها من مجدٍ. وقد قالت لها إحدى العذارى:
“أيّتها الأمّ الحنون، ليست الفِعال (الأعمال) العظيمة التي تُنجز على الأرض هي التي تستأهل السماء، بل يستأهلها الوفاء الكامل. وإنّني أرضى بالعودة إلى الأرض من جديد، كي أتمّم كلّ عملٍ على أكمل وجه.”
“وقد أبلغتني تلك العذراء أنّ الله قد أوكل إليها مهمّة إطلاعي على السماء، وكذلك على ما يجري على الأرض وفي المطهر وفي الجحيم.

وقد أرتني يسوع، مُخلّصنا الإلهيّ، يضطرّم حبًّا، وعلى مقربةٍ منه، جماعة الرسل. وأرتني أيضًا جيش الشهداء، ونفوس الذين قاسوا، على الأرض مَحنًا شديدة. إنّهم لم يُريقوا دماءهم على حدّ ما فعل الشهداء، ولكنّهم يساوونهم مقامًا، لأنّهم حملوا صليبهم.

وقد قالت لي العذراء: “لكلّ صليبه، وعندما يرى الله نفسًا تتقبّل بشهامة الصليب المُلقى على كاهلها، يُعينها هو نفسه، على حمله”.
“وأرتني الكهنة الصّالحين القدّيسين، وقد تألّقوا تألّقَ العذارى، وانتصبوا إلى جانب الربّ والرسل. وكانت تقول: آه ! كم يحبُّ الربّ الكهنة الصالحين ! وكم يفرح عندما يشهد اندفاعهم في سبيل مجده وخلاص النفوس ! كم هو يحبّهم! إنّ عددًا ضئيلاً منهم يصعدُ إلى هنا مباشرة من غير أن يمرَّ بلهيب المَطهر.
“وشاهدت الرجال الذين عاشوا عيشة مسيحيّة، وقد تصاعد من أفواههم ومن أيديهم نورٌ، مكافأةً لهم على إحسانهم وعلى دأبهم.
أمّا النساء اللواتي أخلصنَ لواجبات الحياة المسيحية، فكنّ دون العذارى مَقامًا، وكنّ يحملن على صدورهنّ ما يشبه آنية ورودٍ رائعةٍ، والنور يتوهّج من تلك الآنية.
“وقالت لي دليلتي، وهي تشير إلى أمّ الله:
“إنّك تحبّين هذه الأمّ الطيّبة الحنون، أليس كذلك ؟ إنّك تشهدين أيُّ مجدٍ يغمرها، مع أنّك لا ترَينها كما كان من شأنك أن ترَيها لو كنتِ مقيمةٌ هنا إقامةً أبديّةً. ألا قولي لي ألا يستأهل مجد السماء تُبذَل في سبيل استحقاقه الجهود ؟
وأكرّر لك القول: ليست عظائم الفعال هي التي تستأهل السماء. ولا يسوغ للنفس أن تقول: “أودّ أن أتألّم، أرغب في ذلك الصليب، أو ذلك الحرمان، أو تلك المهانة، فالإرادة الخاصّة تُفسِد كلّ شيء. إنّه من الأفضل أن يُعاني الإنسان قَدرًا أقلّ من الحرمان والآلام والمهانة، بإرادة الله، من أن يُقاسي قِسطًا وفيرًا منها، بإرادته الخاصة.
الأمر الجوهريّ هو أن يتقبّل الإنسان، في حبٍّ، وفي توافقٍ تام مع مشيئة الربّ، كلّ ما يروق للربّ أن يبعث به إليه. هناك، في الجحيم، نفوسٌ كانت تطالب الله بصلبان وإهانات، وقد استجاب لها الله، ولكنّها أخفقت في الإفادة من نعمه لأنّ الكبرياء قد أهلكتها. فلا تطلبي شيئًا، بل تقبّلي بشكر، كل ما سيدفعه الله إليكِ.
“كم من أوهامٍ أيضًا تساور الإنسان عندما يبتليه الله بالمرض. فعِوضًا عن الإفادة منه، يقول في نفسه: “آه! لو كنت أتمتّعُ بعافيتي، لفعلت كيْت وكيْت (كذا وكذا)، وأدّيتُ ذاك العمل في سبيل الله، لخير نفسي” أمّا من يطلبُ الشفاء، فليطلبه أبدًا على نحوٍ شرطيّ: “إن كانت تلك هي مشيئتك يا ربّ، إن كان مجدُك يقتضيه، وإن كان صالحٌ، نفسي تطلبه.”
وأردفت تلك العذراء: “بودّي أن أهبط معك إلى الدنيا كي أتألّم، وكي أتوافق في كلّ شيء مع مشيئة الله، لكي أمجّده على نحوٍ أفضل، وكي أكون أكثر جدارةً بالدنوّ من جماله الأسمى.
“فلتُحبَّ النفوس الله، هذا الأب السماوي، الحنون العطوف، ولتحبّ القريب أكثر من ذاتها، ولتحبّ الفقراء، وإن لم تمتلك سوى كسرة خبزٍ فلتقتسمها معهم، فيقوم عطفُ الله بتأمين أودّ غَدِها، ولن يَدعها تفتقرُ إلى الضروري. وليكُن الله لها الكلّ، في كلّ أمر. ولا يكن لها من مطمعٍ خلا رِضاه وإتمام مشيئته القدّوسة.
“آه ! كم أنّ النفس التي تنهجُ على هذا المنوال هي مرضيّةٌ لدى جلاله السماويّ. بوسعها، وحدها، أن تَهدي ملايين النفوس الأخرى، وليكن لدى النفس التي تحبّ الله والقريب، على هذا النحو، في جميع الظروف، ثقةٌ كبرى، لا تتزعزع.
وبما أنّ كلّ إنسان يعيش على الأرض هو ضعيفٌ، فقد يسمح الله أن يرتكب أخطاءً، لكي يبقى متّضعًا. ولكن ما عليه أن يقنط، بل فليتب، وليعترف بخطاياه للكاهن، فيغفر له الله. أجل! فليثق، أيّة كانت خطاياه، وليعترف بها جميعها، وستُغفر له كلّها.
“هناك قدّيسون، على الأرض، يَسقطون من جرّاء الوَهن البشري، في أخطاءٍ قد تكون فادحة. وحينئذٍ يبذلُ إبليس كلّ الوسائل ليبثّ الذُّعر في تلك النفوس الخاطئة، ويحول دون اعترافها بخطاياه. إذ يوسوس لها: أنّ الكاهن يظنّ أنّك صالحةٌ قدّيسة، فكيف تجسُرين على الإقرار أمامه بهذه الخطيئة ؟ لا، لا يمكن أن تعترفي بهذه الخطيئة لإنسان، ولن تفعلي ذلك ! وتتستّر النفس المخدوعة على خطيئتها، وتستمرّ في تقبّل الأسرار، وينتهي الشيطان بإصابتها بالعمى، فتهوي إلى الجحيم”.
“أذكري جيّدًا هذه الكلمات التي يقولها الربّ، ولا يَغفلَنّ عنها تلاميذه أبدًا: “تعالوا إليّ، تعالوا إليّ، أنتم يا جميع المَنسيّين على الأرض، مِن أجل إلهكم، فأنا لم أنسَكم، تعالوا وادخلوا إلى الأبد، في فرح مُعلّمكم”.
“ثم رأيتُ ما يشبه تطوفًا يقوده مزيج من كهنة وعذارى وراهبات صالحات، يسيرون، وقد تألّقوا مجدًا، إلى جوار الفادي الإلهيّ. وإلى كل جانب كان يقف عدد غفير من الملائكة. وكان حشدٌ من الأطفال الأبرياء، يُحاكون الملائكة، ومن العذارى الصغيرات، ومن شتّى النفوس الطاهرة يلحقون بالموكب، ورأيت سائر المختارين غارقين في نشوةٍ وعبادةٍ”.
“وقالت لي رفيقتي العذراء: يا مريم، هذا العيد جديدٌ أبدًا، وسيدومُ أبديًّا، ستشتركين به يومًا، ولكن لم يحن بعد الوقت لذلك، فكتابك لم يكتمل. أفيدي جيّدًا من الحياة، فإنّ هي سوى لحظةٌ، أمّا هذه الحياة فتدوم أبدًا. وبالأخصّ، لا تفقدي رجاءك يومًا، وِسط المحن والآلام، بل اقذِفي بنفسك، مُغْمَضة العَينَين، بين ذراعَي الله، لكي تكوني، في السماء، أدنى قُربًا منه…

 

“وولجنا المطهر: مكانٌ تغشاه الخُضرة، فسيح، وكم مِن النفوس فيه على تقاربٍ في ما بينها، ولكن على تباينٌ (فرقٌ) شاسعٌ في المعاناة ! عذابُ بعضها يتجاوز أضرى صنوف الآلام، في حين أنّ آلام نفوس أخرى تُحاكي آلام الأمراض على الأرض. لا تُشاهَد نارٌ ظاهرةٌ، غير أنّ كل نفس تحمِل نارها فيها، وليس هناك مِن أبالسة.
“وقالت لي رفيقتي العذراء إنّ أمّ الله، تهبُط كلّ يوم سبت إلى المطهر تحفّ بها طائفةٌ (مجموعة) من الملائكة، فتُحرّر الكثير من النفوس، التي تلحق، في جَذَلٍ، بتلك السماويّة، وكأنّها خراف صغيرة.

 

“والآن، تعالَي نلقِ على الجحيم نظرة، من غير أن نلجه، قالت ليَ العذراء. وعندما رأيته، بدا لي المطهر فردوسًا. فأنفس المطهر خاضعةٌ للمشيئة الإلهيّة وهي سعيدة بالتطهّر بالنار لكي تستأهل به رؤية التجلّي الإلهيّ. في حين أنّه لا يُسمَع في الجحيم سوى صيحاتٌ مُريعةٌ، وسِبابٌ وشتائم. وصُعِقت الأبالسة عندما رأت العذراء التي تقودني؛ فعَلى إبليس أن يقِف ساكنًا، وقفةَ عبدٍ حقيرٍ، في حضورِ نفسٍ تَخصُّ الله بكُلّيتها، وكذلك الأمر عندما يشاهَد نفسًا تصعدُ إلى السماء، إذ تنتابه حُمًّى من الغَيظ…
“وقد أردكتُ أن الشيطان كالرّيح، عندما تهبّ، يُوصَد في وجهها كلّ شيء، وتُسَدُّ الفجوات والشقوق لاتّقائها. فعلى النفس أن تحترز على هذا النحو من إبليس، فتغلُق كلّ ثغرةٍ فيها لئلّا تدعَ منفذًا لذلك الرّوح الشرير.
“وكان أوّل ما أخافني رؤيته في جهنّم، تلك النفوس التي هلِكت من جرّاء رذيلة الفِسق. كان يحيق بها لهيبٌ يتّخذ شكل المحبوب الذي هامَت به حتّى العبادة على الأرض، على نحو جنونيّ. والبُخلاء أيضًا كانوا مُحاطين بلهيبٍ يُمثّل الذهب والفِضّة. وكذلك كانت ألسنةُ النار التي تلبس كلّ من أدين، ترتدي شكل ما كان لإدانته سببًا. ولقد شاهدتُ في جهنّم نفوسًا من جميع الطبقات، ومن جميع المستويات.
“إنّني أشعر أنّ ما سَرَدته لم يكن سوى لعثَمة…”

 

(أديب مُصلِح، قديسة من بلادنا؛ مريم بواردي)

تابعونا على الفيسبوك:

قلب مريم المتألم الطاهر

 

You may also like...

Powered by Calculate Your BMI