تواضع المعلّم الإلهيّ (تأمّلات نادرة لزمن الميلاد)

 

1 –  معلّم الأجيال من منبر المذود

أتعرفون يا أولادي إلى أين أريد أن أذهب بكم في هذا التأمّل؟ إلى مذود الطفل يسوع حيث تتأمّلون ذلك الابن السماوي وتسجدون له وتلاطفونه فتنزلون في قلوبكم من تعاليمه الشريفة أكثر مما تنزلون في أذهانكم.

يقول القديس برنردوس إنّ الاسطبل المظلم الذي وُلد فيه يسوع لهو أجلّ وأقدس هيكل على الأرض. والمعلف الذي رقد فيه هو المنبر الذي من فوقه يلقي علينا معلّم البشر حقائق تعاليمه السامية. لا يُنكر أنّ الطفولة كانت عائقةً له عن الكلام. إلاّ أنّ سكوته علمٌ من الحقائق لا يقدر على مَثله أعظم رجال الأرض فَصاحةً وعِلمًا. ليت الطفل يسوع يصادف تلاميذ متأهّبين لتزيين قلوبهم بتعاليمه الرّفيعة ذات اللّطافة والتأثير.
وكيف لا تكونون منهم، وأنتم مؤمنون به ومتعبّدون لأمّه؟ ومن أحبّ الأمّ وُجِب أن يحبّ الابن أيضًا. فالتمسوا من سيّدتنا مريم العذراء نعمة الاصغاء لما تسمعون في هذا التأمّل لتكون منه فائدة لأنفسكم. ويحملكم على تلقّي تعاليم الطفل يسوع بفرط الارتياح لتنطبع على قلوبكم وتظهر في أفعالكم.

2 – تواضع إله vs كبرياء مخلوق

تأمّلوا قبل كل شيء في تنازل ذلك الطفل وتواضعه. من هو هذا الطفل؟
هو ابن الله أزليّ نظير أبيه، وقادر على كلّ شيء، وغير محدود، ورب السماء والأرض، وملك الملوك. هذا الإله العظيم قد انخفض حتى لاشى عظمته اللّاهوتية من وجهه، وحجب كلّ أشعّة مجده، وظهر لنا طفلاً حقيرًا. أما ترَون أنَّ تَجسّدَهُ لأجلنا هو تنازُلٌ عظيمٌ نِسبَةً إلى الفَرْقِ بين الله والإنسان، وعظمة الخالق وحَقارة المخلوق. ولم يكتفِ بهذا بل أراد أن يُولَد من بِنتٍ فقيرةٍ لا تملكُ شَيئًا من الغنى والشرف، إلاّ ما تملكه من كنز النِّعَم الوافر والمَنزلة السَّنيّة لما يُزيّن نفسها من كمال الطهارة والقداسة.
أراد أن يُولد مَجهولاً خارجًا عن المدينة التي أَبَتْ قبوله داخل أسوارها كأنّه نفايةُ البشر. لا في بيت ولا في كوخٍ بل في اسطبلٍ مهجورٍ لا يصلُح للحيوان فضلاً عن الإنسان. مَلك الملوك لا حاشية له، سوى ثورٍ وحمار. ولا يعرفه أحدٌ ولا يبالي أحدٌ بميلاده.
أتى إلى بنيه وخلائقه وعبيده، فلَم يعرفوه بل رَفضوه. كان قبوله في منازلهم ذُلٍّ وعار. هل كان بامكانه أن يبلغ إلى أبعد من هذه الغاية من الاتّضاع؟ أيّ طفل وُلد ابنًا لأحقر إنسان على الأرض لَقِيَ من القَسوة والذُلّ ما لَقِيَ هذا الطِّفل الإلهيّ. أما كان قادرًا أن يأخذ له أمًّا من الملكات، ويولد في بلاطٍ ملكيٍّ، ويظهر للناس شعاعًا من أشعّة عظمته غير المحدودة، ويذيع في العالم كلّه خبر ميلاده، ويستدعي ملوك الأرض وساداتها من كلّ صوب ليؤدّوا الإجلال والإكرام لسموّه؟ إنّ ذلك لسَهْلٌ على قُدرَته، فلماذا بلغ هذا الحدّ من التذلّل؟

لأنّه شاء أن يعلّمنا من ذينك الاسطبل والمعلف هذه الحقيقة العظيمة وهي: أنّه ينبغي لنا أن نكون متواضعين ونحبّ التستّر والتَواري. ولا نسعى في تحصيل المجد والشرف ولا نفتر من محاربة كبريائنا التي هي أصل كُلّ الشرور وجرثومة الخطايا. أراد أن يعلّمنا، وهو لم يزَل في سرير المذود هذا التعليم السامي؛ وهو أنّنا إذا شئنا إرضاء الله، علينا أن نملك فضيلة الاتّضاع، لأنّها أجمل الفضائل وأشرفهنّ وأساس كلّ فضيلة. ولذلك شاء يسوع أن يمارسها في بدء ظهوره على الأرض.
إنّ المتواضعين يُرضون الله وعليهم يَطرح أنظار رحمته. وهم تلاميذٌ حقيقيّون لَه بإكرامه ورضاه.

وقد أعلن هذه الحقيقة عندما باشر بالإنذار قائلاً: “تعلّموا منّي إنّي وديع متواضع القلب”. ولم يزل يعلّمها إلى اليوم بمثله في القربان الأقدس. أليس هذا توبيخًا لكبريائنا، هو يحبّ الاحتجاب ونحن نحبّ الشهرة والظهور؟
هو الكليّ العظمة يحبّ أن يُعامل كخليقة حقيرة ونحن المساكين الأشقياء نركض وراء الإكرام والاعتبار. ونغضب ممّن يجرحُ لنا أقلّ عاطفةٍ، أو مِمَّن لا يُكرّمنا بمقدار ما نستحقّ، أو يفضّل أحدًا علينا، ولو كان أفضل منّا. وإنَّ كلمةً أو حركةً لا تتوافق وكبرياءَنا تُضرم في قلوبنا نار الاحتدام. ونُندّد بالنّاس ونحسبهم جائرين ونحاسِبَهُم كَفّارةً وتَعويضًا.
ما أعظم الفرق بين التلميذ والمعلّم! ما أبعد قلبنا شبهًا عن قلب يسوع قدوتنا في القداسة! ونحن مع ذلك نفتخر بكوننا من أتباعه. ونؤمن بإنجيله ونعترف بكونه إلهنا ومعلّمنا. فلنكره كبرياءَنا ونمقتها أمام ذلك المذود الوضيع. قاصدين أن نستأصلها من قلوبنا إلى الأبد.

(كتاب “مواعظ شهر أيار”، تأمّلات مع مريم بالطفل يسوع، للأسقف الإيطالي انجيلو برساني دوسسنا، بيروت ١٩١٤)

 

تابعونا للمزيد على صفحة

قلب مريم المتألم الطاهر 

You may also like...

Powered by Calculate Your BMI